في عالم لا يعترف إلا بالمتفوقين، لا يكفي أن تكون جيدًا، ولا حتى عظيمًا. ما يصنع الفارق الحقيقي هو أن تكون "لا يُقهر" شخصًا لا يتراجع، لا يبحث عن أعذار، ولا يرضى بالنجاح المؤقت.
في كتابه الاستثنائي "المثابر: من جيد إلى عظيم إلى شخص لا
يقهر"،
يكشف المدرب الأسطوري تيم غروفر أسرار النجاح الذهني والنفسي التي صنعت أساطير مثل
مايكل جوردن وكوبي براينت.
هذا الكتاب ليس مجرد دليل للتحفيز، بل هو خارطة طريق للعقلية الحديدية
التي تُمكّنك من مواجهة التحديات، كسر القيود، وخلق معاييرك الخاصة في الأداء
والقيادة والنجاح.
غروفر لا يُجامل القارئ، بل يواجهه بالحقيقة: العظمة ليست للجميع،
لكنها في متناول من يجرؤ على الالتزام، التحمل، والعمل بصمت على نفسه حتى يصبح
"مهووسًا بالتفوق".
يستعرض المؤلف تيم غروفر في كتابه ما الذي يميز المؤدين النخبة عن
البقية. ويستند في ذلك إلى عقود من الخبرة في تدريب رياضيين من الطراز العالمي
ليُظهر كيف أن عقلية الإصرار والتصميم هي التي تغذي النجاح الاستثنائي.
يؤكد غروفر أن الموهبة والعمل الجاد وحدهما لا يكفيان؛ فالعظمة
الحقيقية تتطلب صلابة ذهنية لا يمتلكها إلا القليلون.
يعرض غروفر ثلاث فئات من المنافسين:
- المبرّدون: يحافظون
على سير الأمور وينفذون عند وجود رهانات معتدلة.
- المنفّذون: يزدهرون
تحت الضغط ويحسمون الفوز عند الحاجة.
- المهيمنون: يقفون
وحدهم؛ هم من يضعون المعايير، ويُعرّفون قواعد اللعبة، ويرفضون الاكتفاء
بالقليل.
يصرّ غروفر على أن المهيمنين لديهم دافع داخلي لا يعرف الراحة. فهم
يرون العقبات ليست تهديدات، بل فرصًا لإثبات الذات. وعندما يتراجع
الآخرون أو يحتفلون مبكرًا، يدفع المهيمنون أنفسهم للعمل بجد أكبر، ويواصلون صقل
مهاراتهم حتى عندما يبدو النصر مضمونًا.
ويصف كيف أن المهيمنين يتجنبون المشتتات. لا يهتمون
بآراء الآخرين أو الحواجز.
بدلاً من ذلك، يركزون على هوسهم الشخصي: الإتقان. إنهم يرفضون
الاستسلام الذهني لمجرد أنهم أنجزوا ما هو متوقّع.
يشترك المنفّذون في بعض الصفات مع المهيمنين، لكنهم لا يزالون يسعون
إلى التقدير. إنهم يؤدون بأفضل شكل تحت الضغط وغالبًا ما يسرقون الأضواء في
اللحظات الحاسمة. لكن، بمجرد انتهاء اللعبة أو انقضاء الموعد النهائي، يمكنهم
الاسترخاء. أما المهيمنون، فلا يفعلون ذلك أبدًا.
يشير غروفر إلى أن الصلابة الذهنية تتطلب السيطرة على المشاعر. ويحذر
من السماح للخوف أو الشك أو الغضب بأن تُحدد أفعالك. فالمؤديون الذين لا يُقهرون
يوجّهون عواطفهم إلى التركيز والدقة، بدلاً من السماح لها بالخروج عن السيطرة.
ويقدّم استراتيجيات عملية لبناء هذه السيطرة، منها:
أن تتعلم كيف تكتشف المحفزات التي تُفقدك تركيزك،
ثم تدرب نفسك على التنفس، وإعادة التركيز، واتخاذ القرار رغم الانزعاج. فكل
لحظة إتقان تعزز قدرتك على السيطرة على التحدي التالي.
يُنمّي المؤدّون الذين لا يُقهرون حدسًا في التوقيت؛ يعرفون متى
يهاجمون، ومتى يدافعون، ومتى ينسحبون. يشعرون بتدفق المنافسة كما يشعر المرء بتغير
المد، ويعدّلون سرعتهم وتكتيكاتهم في الوقت الفعلي.
ويؤكد غروفر أن الراحة والتعافي ضروريان بنفس القدر. الصلابة
لا تعني أن تُجهد نفسك حتى الانهيار، بل تعني أوقات راحة استراتيجية: نوم،
فترات راحة ذهنية، وإعادة تشغيل قصيرة تُبقيك منتعشًا ومستعدًا للمواجهة القادمة.
كما يناقش تأثير البيئة المحيطة، فالعقلية تتشكل من البيئة. المهيمنون
يرفضون الإيجابية الزائفة والتشجيع الكاذب. إنهم يختارون أقرانًا ومرشدين يدفعونهم
نحو الأفضل، وليس من يُدللونهم.
يشارك غروفر دروسًا من أبطال في الرياضة والأعمال. مثلًا، كيف بقي
مايكل جوردن مركزًا حتى بعد فوزه بست بطولات NBA،
وكيف كان كوبي براينت يُكثف تدريبه عندما كان الجمهور يعتقد أنه انتهى.
تُظهر هذه القصص نقطة أساسية: النجاح لا يقلل
من الحاجة إلى الشغف والتركيز، بل يزيدها. لأن الفجوة بينك وبين من يسعون للحاق بك
تضيق كلما ارتفعت بمستواك.
ويحذر من الرضا عن النفس بأي شكل. سواء كنت في القمة أو لا تزال
تتسلق، هناك دائمًا من هو أكثر جوعًا مستعد لأخذ مكانك. وهذه الحقيقة هي ما يدفع
المهيمن لعدم التوقف.
في الفصول الأخيرة، يقدم غروفر خطة خطوة بخطوة لتبنّي عقلية لا
تُقهَر. يشجع القارئ على بناء طقوس يومية، واحتضان العزلة، وطلب التغذية الراجعة
حتى إن كانت مؤلمة. ويُظهر كيف أن الأفعال الصغيرة المتكررة تخلق ثقة
لا تتزعزع.
في النهاية، يدعوك الكتاب إلى التشكيك في حدودك ثم تجاوزها. لا
يعرض غروفر طريقًا مريحًا، بل يطالبك بالصدق، والانضباط، والمحاسبة الجذرية. ويُثبت
أن أولئك الذين يتحملون المشقة يمكنهم تحقيق عظمة يحلم بها الآخرون فقط.
أولا: عقلية "المهيمن":
التركيز الذي لا يُوقَف.
يصف تيم غروفر ما يُسميه بعقلية
"المهيمن"
بأنها حالة نادرة من الذهنية لا يمتلكها إلا القليل من الناس، أولئك
الذين لا يتحدثون كثيرًا عن خططهم أو يطلبون التقدير، بل يتحركون بصمت وثبات نحو
أهدافهم، ويفعلون ما يلزم دون تردد. لا يرضى المهيمن بما هو "جيد"، ولا
حتى بما هو "عظيم"؛ بل يطمح إلى الكمال، ويبقي تركيزه منصبًا على هدفه
بشكل كامل لا يتزحزح.
وفقًا لغروفر، تقوم هذه الذهنية على
مزيج من الالتزام القاسي، والدافع الأحادي الاتجاه، والثقة القتالية بالنفس. المهيمنون
لا يطلبون الإذن أو يبحثون عن رضا الآخرين، بل يضعون معاييرهم الخاصة ويعيشون
وفقها، حتى إن لم يفهمهم أحد.
هذه العقلية لا تغيّر فقط أداء
الأفراد، بل تعيد تشكيل الطريقة التي ينظر بها كبار الرياضيين، ورواد الأعمال،
والمبدعون إلى التحديات. فعندما يتبنى الشخص موقفًا يرفض فيه التوقف أو الرضا عن
أي شيء أقل من الأفضل، تبدأ عملية مستمرة من التطور والتحسين الذاتي. إن هذا
النوع من التفكير يُعزز المرونة الداخلية، ويُربّي في النفس قدرة على التحمل
والنهوض المتكرر بعد كل عقبة.
وقد رأينا على أرض الواقع كيف ساهمت
هذه العقلية في إحداث ثورات حقيقية في مجالات كاملة. فقد رفع مايكل جوردن مستوى
لعبة كرة السلة إلى آفاق جديدة، كما فعلت سيرينا ويليامز في عالم التنس. إن
تأثيرهم لم يقتصر على البطولات، بل ألهموا أجيالًا من الرياضيين والمدربين
ليُعيدوا التفكير في طرق التدريب والقيادة والإبداع، مما فتح الباب لاختراقات
مذهلة في مجالات متعددة.
في جوهرها، هذه العقلية تعني أن
تتحمل المسؤولية الكاملة عن كل ما تفعله، أن تضع لنفسك معايير عالية لا تتنازل
عنها، ألا تنتظر تصفيق الآخرين أو تصديقهم، بل تسعى دائمًا لتكون أفضل من الأمس،
وتستمر في المضي قدمًا بتركيز لا يلين ولا ينكسر.
ثانياً: الثقة بالحدس: الاستجابة الغريزية تحت الضغط.
يؤكد تيم غروفر أن الثقة بالحدس الشخصي هي إحدى السمات الجوهرية
للمؤدين الذين لا يُقهَرون. يقول: "عندما تعرف أنك جيد، لن تحتاج إلى النظر
حولك لإثبات ذلك." بمعنى أن من يمتلك الكفاءة الحقيقية لا يضيع وقته في
انتظار تأكيد من الآخرين؛ فهو يعلم من داخله ما يستطيع فعله.
يرى غروفر أن الإفراط في التفكير يُفسد الأداء. فعندما تُربكك
التحليلات والشكوك والآراء الخارجية، تتعطل استجابتك الطبيعية وتفقد إيقاعك. أما
النخبة، فإنهم يتصرفون بسرعة ودون تردد، لأنهم قضوا سنوات في التدريب المكثف
المتعمد، حتى أصبحت استجاباتهم غريزية، أقرب إلى الفعل التلقائي.
ويحذّر من الاعتماد الزائد على رأي الآخرين أو السماح للشك بالتسلل
إلى قراراتك. فـ"المهيمنون" يتخذون قراراتهم بسرعة بناءً على ثقة عميقة
بالنفس، ولا يشعرون بالحاجة لمراجعة كل خطوة مع الآخرين. وهذا لا يعني التهور، بل
يعني أنهم مستعدون للفوضى، لأنهم تدربوا مسبقًا على مواجهة اللا متوقع.
في البيئات التي تكون فيها القرارات اللحظية حاسمة—مثل غرف العمليات
الجراحية، وأسواق المال، والمباريات النهائية—فإن قدرة القائد على التصرف بسرعة
وبدون تردد قد تُحدث فرقًا بين النجاح والانهيار. أولئك الذين يثقون بحدسهم
ويتصرفون دون ارتباك يكونون أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات، مقارنة بمن يتجمد
في لحظات الضغط.
وقد أثّر هذا المبدأ بشكل واضح على تصميم البرامج التدريبية في الجيوش
ووحدات الطوارئ، حيث يُدرّب الأفراد على الاستجابة السريعة في مواقف مفاجئة، دون
انتظار تعليمات مفصلة. الهدف من ذلك هو غرس الثقة في قراراتهم، بحيث يمكنهم التصرف
بسرعة ودقة عندما تكون الأرواح أو الموارد في خطر.
في نهاية المطاف، يدعونا غروفر إلى تطوير الحدس من خلال الممارسة
المقصودة، وتقليل التردد الذهني، وبناء الثقة بالنفس خاصة تحت الضغط، والاستعداد
المسبق لحالات الفوضى، حتى تصبح القدرة على اتخاذ القرار السريع جزءًا طبيعيًا من
شخصيتنا.
ثالثاً: احتضان الانزعاج: طريقك إلى العظمة الحقيقية.
يقول تيم غروفر جملة محورية: "الراحة
تعني الركود، والركود هو قاتل العظمة."
بهذا التصريح، يسلط الضوء على فكرة أساسية في عقلية "المهيمن"،
وهي أن التقدم الحقيقي لا يحدث في لحظات الراحة، بل في اللحظات التي نشعر فيها
بعدم الارتياح.
يشرح غروفر أن الأشخاص الاستثنائيين لا يهربون من الألم أو الصعوبات،
بل يتعمدون التوجه نحوها. إنهم يبحثون عن التحديات، ويدربون أنفسهم في ظروف قاسية،
ويدفعون أجسادهم وعقولهم إلى ما هو أبعد من المعتاد. لا يخافون من النقد، بل
يرحبون به، لأنهم يعلمون أن الانزعاج هو أداة للنمو.
ويُقارن ذلك بسلوك معظم الناس، الذين يسعون دائمًا إلى البقاء في
مناطق الراحة وتجنب الألم والمشقة. هذه الرغبة المستمرة في الراحة، بحسب غروفر،
تُعيق النمو الشخصي وتمنع أي فرصة لتحقيق التميز الحقيقي. فالمهيمنون يدركون جيدًا
أن ثمن العظمة باهظ الثمن، وأنه يتضمن ليالٍ بلا نوم، وجهدًا مؤلمًا، وتضحيات لا
نهاية لها.
ولا يقتصر هذا المفهوم على الأفراد فقط، بل يمتد إلى المؤسسات
والمنظمات. فعندما تتبنى الشركات بيئة تسمح بدرجة صحية من الانزعاج، فإنها تحفز
الابتكار والإبداع. على سبيل المثال، نجد شركات التكنولوجيا تنظم مسابقات
"هاكاثون" بحدود زمنية صارمة، مما يخلق ضغطًا خلاقًا يؤدي إلى اختراقات
تقنية لم تكن لتحدث في ظروف مريحة. كما أن الرياضيين الذين يُخضعون أنفسهم لبرامج
تدريب قاسية، غالبًا ما يكتشفون قدرات جسدية وذهنية لم يكونوا يعرفونها في أنفسهم.
ويمتلئ التاريخ بأمثلة لأشخاص ازدهروا في ظل الضغط والمحنة: من
مستكشفين تحدّوا أقسى الظروف المناخية، إلى روّاد أعمال واجهوا انهيارات اقتصادية.
جميعهم يُثبتون أن الإنجازات الكبيرة تأتي غالبًا بعد فترات من الانزعاج الشديد.
ما يريد غروفر تأكيده هو أن الانزعاج ليس عدوًا يجب الهروب منه، بل هو
حليف خفي يُعِدّك للعظمة. فحين تقبل الألم المؤقت، وتتعلم من الفشل، وتدرب نفسك
على التحمل الذهني، فإنك بذلك تُكوّن شخصية لا تنكسر أمام التحديات، وتفتح أبوابًا
لم تكن تتخيل أنها موجودة.
رابعاً: تحمّل نتائجك: لا تتهرّب، تَملَّك.
يقول تيم غروفر: "عندما تختلق الأعذار، فإنك تتنازل عن
قوتك."
بهذه العبارة القوية، يُبرز أحد أهم المبادئ في عقلية "المهيمن" وهي تحمّل المسؤولية الكاملة عن النتائج، سواء كانت إيجابية أو سلبية.
غروفر يوضح أن التمسك بالمحاسبة الشخصية هو شكل من أشكال القوة. فالمهيمن
لا يُلقي باللوم على الظروف، أو على الفريق، أو على الإدارة، أو على الحظ. لا يبحث
عن مبررات ليُبرّر بها الإخفاق، بل يواجه النتيجة بكل صراحة، ويقول: "هذه
مسؤوليتي". وهذا الموقف لا يعني جلد الذات، بل هو محرك للنمو والتطور. فعندما
ترفض تقديم الأعذار، تبدأ تلقائيًا بالبحث عن الحلول، وتُركّز على ما يمكنك فعله
لتحسين الوضع، بدلاً من الدوران في حلقة لوم الآخرين.
هذا النوع من المسؤولية يُسهم أيضًا في بناء الثقة والمصداقية، سواء
على المستوى الفردي أو داخل الفرق. القائد الذي يعترف بأخطائه ولا يُحمّلها
للآخرين يُكسب احترام من حوله، ويُعزز ثقافة الشفافية. وفي بيئة العمل، عندما يرى
الفريق أن القائد لا يتهرب من الخطأ، يشعرون بحرية أكبر لاقتراح الأفكار والمخاطرة
دون الخوف من العقوبة أو الإحراج. وهذا يفتح المجال للابتكار والتطور بدلاً من
إخفاء الفشل أو تجنبه.
أما على مستوى المجتمع، فإن الشخصيات العامة التي تتحمّل مسؤولية
إخفاقاتها—بصدق ووضوح—غالبًا ما تستعيد ثقة الجمهور حتى بعد الإخفاقات الكبرى. لأن
الاعتراف بالخطأ، بدلاً من إنكاره، يُشير إلى نضج أخلاقي ويُشجّع الآخرين على
السلوك نفسه، مما يخلق ثقافة من الوضوح والمساءلة الجماعية.
ما يريد غروفر إيصاله هو أن التوقف عن اختلاق الأعذار هو خطوة نحو
التمكين الشخصي.
حين تقول لنفسك: "أنا المسؤول"، فإنك في تلك اللحظة تُمسك
بزمام الأمور وتستعيد السيطرة على مستقبلك، بدلًا من تركه رهينة لظروف خارجة عن
إرادتك.
خامساً: الهوس بالتحضير: حيث تُصنع العظمة في الخفاء.
يقول تيم غروفر: "العظمة تُكتسب في الساعات التي لا
يراها أحد."
في هذه الجملة يُسلّط الضوء على أحد أهم أسرار النجاح الحقيقي، وهو أن
التميز لا يُولد تحت الأضواء، بل يُبنى بصمت، بعيدًا عن أعين الناس. فالأداء
العظيم لا يأتي من فراغ، بل من وقت طويل من الإعداد الشاق الذي لا يعرفه أحد.
غروفر يوضح أن المؤدين في القمة لا يتركون شيئًا للصدفة. إنهم
يُكرّسون وقتًا وجهدًا هائلًا للتحضير، يتدربون على كل سيناريو ممكن، يُكررون
المهارات نفسها آلاف المرات، ويُخططون بتفاصيل دقيقة لكل احتمال. هذا الهوس
بالتحضير ليس مجرد روتين، بل هو أساس الثقة العميقة بالنفس. فعندما يحين
وقت الأداء الحقيقي، سواء كان ذلك في مباراة، أو عرض، أو عملية، فإنهم يتصرفون
بهدوء واتزان، لأنهم قد واجهوا مثل هذه اللحظات من قبل—في الظل، أثناء التدريب،
بعيدًا عن الجمهور والكاميرات.
هذا الأسلوب لا يقتصر على الرياضة أو الفن، بل يمتد ليشمل مجالات مثل
الطب والأعمال. فالموسيقي الذي يُمارس لساعات متأخرة من الليل، والطبيب الذي يكرر
بروتوكولات الطوارئ مرارًا، كلاهما يكتسب إتقانًا حقيقيًا يظهر بوضوح في لحظات
الحسم.
حتى في عالم الشركات الناشئة، نجد أن الفريق الذي يُجري أبحاثًا دقيقة
عن السوق، ويتدرّب على عروضه التقديمية باستمرار، يكون أكثر قدرة على جذب
المستثمرين والحصول على التمويل. لماذا؟ لأن عمق التحضير يعكس الجدية والاحترافية
والرؤية المستقبلية.
في النهاية، يُشير غروفر إلى أن من يسعى إلى التفوق يجب أن يستثمر
طاقته عندما لا يكون أحد يشاهد. فالعظمة لا تُبنى على المسرح، بل في الكواليس. إن
من يُكرّس نفسه للإعداد، من يُتقن كل جانب من عمله حتى في الخفاء، هو من يُصبح
صاحب الثقة الثابتة، وهو من يُتقن مجاله حتى يتحول الإبداع فيه إلى طبيعة ثانية.
سادساً: كن مُصِرًّا، لا قاسيًا: قوة العزيمة المتوازنة.
يُوضّح تيم غروفر في هذه الفقرة تمييزًا دقيقًا بين مفهومي
"الإصرار" و"القسوة". فهو يقول: "يجب أن
تهتم، ولكن ليس بشكل مفرط. التوازن بين الشغف والهدف هو المفتاح."
وهنا، يلفت النظر إلى أن العظمة لا تتحقق من خلال إيذاء الآخرين أو
تجاهل مشاعرهم. فالشخص المهيمن لا يُستخدم شراسته كأداة للتخويف أو السيطرة، بل
يُوجّه هذه القوة نحو تحقيق أهداف بناءة.
غروفر يصف "المهيمنين" بأنهم أشخاص يمتلكون كثافة داخلية
قوية، لكنهم يتحكمون فيها بحكمة. فهم يسعون خلف أهدافهم بعزم لا يتزعزع، لكنهم في
الوقت نفسه يفهمون أهمية التعاطف والتعاون مع من حولهم. يعرفون أن النجاح الحقيقي،
خاصة على المدى الطويل، لا يأتي من خلال تدمير الآخرين، بل من خلال إلهامهم ودفعهم
للأفضل.
إنهم لا يستخدمون الخوف كوسيلة لتحفيز فرقهم، بل يُشعلون الحماس في من
يعملون معهم من خلال القدوة والدعم والثقة. وهذا النهج المتوازن يُحافظ على
العلاقات ويضمن استمرار الأداء العالي دون أن يحترق الفريق أو ينكسر تحت الضغط.
على مستوى القيادة، يضرب غروفر مثالًا بالرؤساء التنفيذيين الذين
يجمعون بين الإصرار والتعاطف. هؤلاء لا يقودون فقط شركات ناجحة، بل يبنون
ثقافات عمل إيجابية، تحتفظ بالمواهب، وتشجع على الابتكار دون المساس بالقيم.
وبالمثل، في عالم الرياضة، فإن الفرق التي تُدار من قبل مدربين يدفعون
اللاعبين بقوة، لكن دون أن ينهكوهم نفسيًا أو جسديًا، غالبًا ما تحقق البطولات
وتُحافظ على ولاء لاعبيها. هذه الفرق تُثبت أن القيادة الأخلاقية ليست ضعفًا، بل
قوة استراتيجية تُعزز من الاستمرارية والنجاح.
في نهاية المطاف، الرسالة الأساسية من غروفر هي أن تكون مُصِرًّا دون
أن تفقد إنسانيتك.
استخدم قوتك بوعي، وادمج بين الشغف والتعاطف، فذلك هو السبيل لبناء
علاقات متينة، ونجاحات تدوم، وقيادة تحترم الأفراد وتحقق النتائج في آن واحد.
أخيراً: نظرة مستقبلية: نحو جيل جديد من العقلية الصلبة.
مع تزايد اعتماد الأفراد والمؤسسات على المبادئ التي طرحها تيم غروفر،
يُتوقع أن نشهد تحوّلًا واضحًا نحو مستويات أعلى من تحمل المسؤولية والصلابة
الذهنية.
البرامج التدريبية ستتطور لتُحاكي بشكل أدق الضغوط الواقعية التي
يواجهها الناس في الحياة والعمل، مما سيُعدّهم بشكل أفضل للأداء تحت الضغط.
ومع التقدم التكنولوجي، قد تظهر أدوات جديدة تُساعد في هذا التطور،
مثل التدريبات باستخدام الواقع الافتراضي أو تغذية راجعة مدعومة بالذكاء
الاصطناعي، وكلها تهدف إلى صقل الغريزة وتعزيز القدرة على التحمل الذهني. ومع ذلك،
تبقى الرسالة الجوهرية ثابتة عبر الزمن: لا شيء يُعادل الإصرار الكامل والثقة العميقة
بالنفس في صناعة العظمة الحقيقية.
في نهاية المطاف، فإن من يتبنون فلسفة غروفر في مواجهة الانزعاج وتحمل
النتائج سيساهمون في إعادة تشكيل مفاهيم القيادة والثقافة. سيبرز جيل من
الأشخاص القادرين على توسيع حدود الممكن في مجالات مثل الرياضة، وإدارة الأعمال،
والتطوير الشخصي، واضعين معايير جديدة لما يمكن للإنسان تحقيقه عندما يجمع بين
التصميم والمساءلة الذاتية.
الخاتمة:
في النهاية لا يتركنا تيم غروفر فقط مع أفكار تحفيزية، بل مع دعوة
صريحة لإعادة تعريف حدودنا الشخصية. فالعظمة ليست صدفة، ولا ثمرة موهبة فقط، بل نتاج
الإصرار، والسيطرة على الذات، والتدريب المستمر تحت الضغط.
من خلال عقلية "المهيمن"، نتعلم أن النجاح لا يقتل الحاجة
إلى العمل، بل يزيدها. أن الراحة عدو التقدم، وأن تحمل المسؤولية هو أول طريق
الحرية.
إنه كتاب لا يهمس لك بكلمات لطيفة، بل يصعقك بالحقيقة: إن أردت أن
تكون الأفضل، فعليك أن تكون مستعدًا لدفع الثمن بالكامل، وأن تواصل السعي عندما
يتوقف الجميع.
فالعظمة لا تُمنح، بل تُنتزع — وبكل هدوء، وبلا تردد، وبعقلية لا تعرف
التوقف.
تعليقات
إرسال تعليق