القائمة الرئيسية

الصفحات

عندما يهديك العقل إلى التسليم | قراءة فكرية في كتاب عقلنة التسليم - مهند بن جازي

 في عالمٍ تتزاحم فيه الشبهات، وتتشوش فيه البوصلة يبقى السؤال الكبير: كيف نسير إلى الله بعقلٍ مطمئن، لا متردد؟

وهل التسليم له، ولشرعه… ينافي العقل؟ أم يكتمل به؟

إن خضوعك لله لا يعني أنك أغلقت عقلك، بل أنك وصلت به إلى أعلى درجات الوعي؟
في كتاب عقلنة التسليم، يأخذنا الدكتور مهند بن جازي في رحلة فكرية وإيمانية، لنفهم كيف يجتمع العقل مع الوحي، وكيف يكون التسليم طريقًا لا إلى الطاعة فقط، بل إلى الفهم، والإدراك، والسكينة.

وتصحح المفهوم: أن التسليم ليس ضعفًا… بل هو ذروة التوحيد، وكمال الانقياد، وحقيقة “لا إله إلا الله”.

في هذا الكتاب ستتأمل:

  •    معنى العبودية
  •    فقه الغاية من الوجود
  •    حاجة العقل للوحي
  •    حدود التفكير الإنساني
  •    ولماذا كان الوحي هو النور الذي يُرشد، لا الذي يُقيَّم

قراءةٌ لمن أرهقته الأسئلة… واشتاق إلى اليقين

 



أولاً: مفهوم التسليم في الإسلام: عبودية لا عشوائية.

في قلب الإيمان الإسلامي، يقف "التسليم" كمفهوم مركزي لا يمكن تجاوزه. لكنه تسليم يختلف كليًا عن الصورة النمطية للانقياد الأعمى أو الخضوع بلا فهم. فحين يدعو الإسلام إلى التسليم لله ورسوله، لا يطالب الإنسان بإلغاء عقله أو تجميد إرادته، بل يطلب منه أن يضع ثقته المطلقة في خالقه الذي يعلم السر والعلن، ويعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده.

التسليم في جوهره هو أعلى مراتب العبودية. إنه اعتراف داخلي وعملي بأن الله هو الأعلم، والأحكم، والأرحم، وأن أوامره ونواهيه لا تأتي عبثًا أو تحكمًا، بل تأتي لحكمة ورحمة وعدل. فالعبد الحق ليس من يعبد الله بجوارحه فقط، بل من يُسلم لله قلبه وعقله ومشيئته، فيرضى بحكمه، ويقبل توجيهاته، حتى وإن خالفت هواه أو خرجت عن تصوره المحدود.

ولعل هذا المفهوم يظهر جليًا في مواقف كثيرة من السيرة النبوية وسير الصحابة، حين كانوا يقولون بلا تردد: "سمعنا وأطعنا". لم يكن هذا خنوعًا، بل كان ثمرة يقين راسخ بأن الأمر الإلهي لا يأتي إلا بالخير، وأن العبودية الصادقة تعني الاستسلام لله طواعية، لا كرهًا ولا اضطرارًا.

وهنا يوضح الكتاب بجلاء أن التسليم ليس لحظة ضعف، بل هو قمة القوة الإيمانية، لأنه يتطلب منك أن تتجاوز غرورك الفكري، وتُقر بأن لله الكمال في العلم والحكمة، بينما فيك النقص والجهل والهوى.

ثانياً: العقل السليم والتسليم للوحي: تكامل لا تصادم.

من المغالطات الشائعة في عصرنا الاعتقاد بأن العقل والوحي في صراع دائم، وأن أحدهما لا بد أن يُقصي الآخر. يأتي كتاب عقلنة التسليم ليكشف زيف هذا التصور، مؤكدًا أن العلاقة بين العقل والوحي في الإسلام علاقة تكامل وتعاون، لا تضاد أو خصومة.

العقل في الإسلام ليس مرفوضًا، بل هو مكرَّم ومأمور بالعمل. بل إن أول أمر إلهي في الوحي كان "اقرأ"، إشارة واضحة إلى مكانة العقل والتفكّر. لكن في الوقت نفسه، يقرر الكتاب أن العقل – مهما بلغ من الفطنة والذكاء – يبقى محدودًا في إدراكه، قاصرًا عن الإحاطة بكثير من الأمور الغيبية أو المقاصد العميقة لأوامر الله.

هنا يأتي دور الوحي، لا ليُعطّل العقل، بل ليكمله ويهديه. فالعقل كالبوصلة، لكنه لا يستطيع رسم خريطة الطريق كاملة؛ أما الوحي فهو النور الذي يكشف الطريق، ويبين الاتجاه، ويقي الإنسان من الضياع في مسارات العقل المجرد أو الأهواء المتقلبة.

ومن هذا المنظور، يؤكد الكتاب أن التسليم للوحي ليس تنازلًا عن العقل، بل هو ثمرة من ثمار العقل السليم، الذي يعترف بحدوده، ويتواضع أمام الحقيقة الربانية، ويعلم أن ما جاء من عند الله لا يمكن إلا أن يكون هو الحق، حتى إن غاب عن الفهم الكامل في لحظة من الزمن.

بالتالي، من السطحية الفكرية أن نرفض نصوص الوحي بدعوى "عدم اقتناع العقل بها"، لأن ذلك في الحقيقة ليس انتصارًا للعقل، بل استعلاء به فوق ما يحتمل، وهو أول طريق الانحراف.

 

ثالثا:ً فقه الغاية من الوجود: التسليم مفتاح الفهم الحقيقي للحياة.

ما الغاية من وجودنا؟ سؤال قديم، لكنه يظل من أكثر الأسئلة إلحاحًا في حياة الإنسان. واللافت أن كثيرًا من الناس يبحثون عن إجابات في الفلسفات، أو تجارب الحياة، أو حتى في متع الدنيا، بينما يغفلون أن الجواب قد جاء واضحًا في قول الله تعالى:
"
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".

في هذا الإطار، يسلط كتاب عقلنة التسليم الضوء على أن التسليم لأوامر الله هو الفهم الأعمق لغاية الوجود. فالتسليم لا يعني فقط الانقياد للأحكام الشرعية، بل هو استجابة كلية لما خُلقنا من أجله، أي العبودية الكاملة لله.

إن الإنسان حين يُسلِّم لله في سلوكه، ونيّته، وقراراته، لا يفعل ذلك عن ضعف أو ضغط، بل عن إدراك أن غايته في هذه الحياة لا تتحقق إلا في ظل الطاعة. وكلما ازداد فهمه لمعنى التسليم، كلما صار أكثر وعيًا بمعنى وجوده، وأقل تشتتًا في خضمّ الدنيا.

فالذين يحيون دون تسليم حقيقي لله، تجدهم غالبًا في حالة قلق دائم، يتأرجحون بين معاني الوجود المادي والفراغ الروحي. أما من أدرك أن الغاية هي عبادة الله عن وعي ومحبة وتسليم، فقد وضع قدمه على طريق الطمأنينة والثبات.

ويشير الكتاب هنا إلى أن التسليم لا يفصل الإنسان عن الحياة، بل يربطه بالحياة ربطًا صحيحًا. فيصير كل عمل صغير – من سعي في الرزق إلى تربية الأبناء – جزءًا من عبادة متكاملة، ما دام منطلقه طاعة الله وتحقيق غاية وجوده.

 

رابعاً: التسليم كتحقق لكمال التوحيد: من القول إلى الانقياد.

يظن بعض الناس أن التوحيد يكتمل فقط بقول "لا إله إلا الله"، لكن كتاب عقلنة التسليم يبين أن هذه الكلمة ليست مجرد شعار يُقال، بل منهج حياة يتجلى في التسليم المطلق لله عز وجل.

التوحيد الحق ليس فقط أن تؤمن أن الله هو الخالق والرازق والمدبّر، بل أن تُذعن له في أوامره ونواهيه، وتقبل حكمه، وتُسلم له فيما تحب وما تكره. فالقول بلا انقياد، والاعتقاد بلا عمل، لا يُعدّ توحيدًا خالصًا، بل نقصٌ في الإيمان، وربما خداع للنفس.

يؤكد الكتاب أن التسليم هو ذروة التوحيد، لأنه المظهر العملي لقول "لا إله إلا الله". فمن يقولها حقًا، يجب أن يكون مستعدًا أن يُقدّم إرادة الله على إرادته، وشرعه على هواه، ورضاه على شهواته.

إن أعظم صور التسليم تظهر حين لا يفهم الإنسان الحكمة الكاملة من أمرٍ ما، لكنه يُسلم لله، واثقًا في علمه، مطمئنًا إلى عدله. تمامًا كما فعل الخليل إبراهيم عليه السلام حين أُمِر بذبح ابنه، أو كما فعل الصحابة عندما تركوا عادات الجاهلية استجابة لوحي السماء.

وهكذا يُظهر لنا الكتاب أن الانقياد ليس ضعفًا، بل هو ترجمة عملية للتوحيد. فمن يدّعي التوحيد وهو يرد أوامر الله أو يُجادل في نصوصه، لم يُحقق التوحيد كما ينبغي، بل جعله حبيس التنظير دون أثر حقيقي في قلبه وسلوكه.

 

خامساً: حدود التفكير الإنساني ودور الوحي: حين يتوقف العقل يبدأ النور.

من أخطر الأوهام التي وقع فيها الإنسان المعاصر اعتقاده أن عقله قادر على إدراك كل شيء، وأن ما لا يبلغه العقل لا ينبغي تصديقه أو التسليم له. يأتي كتاب عقلنة التسليم ليُصحّح هذا الوهم، ويضع العقل في مكانه الطبيعي: أداة عظيمة لكنها محدودة.

العقل نعمة لا شك، وهو وسيلة الإنسان للفهم والتمييز. لكن مهما بلغت قوته، فهو لا يستطيع أن يُحيط بكل شيء، لا في الوجود ولا في الحكمة من الأوامر الشرعية، ولا في معرفة الغيب والمآلات. ولهذا جاء الوحي ليكمّل العقل ويوجهه، لا ليُلغيه أو يهمّشه.

يضرب الكتاب مثالًا واضحًا: لو أن العقل قادر على الاستقلال المطلق، لما احتاج الإنسان إلى وحي من السماء، ولأمكن لكل فرد أن يصل إلى الهداية بنفسه. لكن الواقع يثبت العكس؛ فبغير الوحي، تاهت الأمم، واختلفت العقول، وتناقضت الفلسفات، وتبدلت القيم بتبدل الأهواء.

لهذا، الوحي ليس خصمًا للعقل، بل رحمة له. هو النور الذي يهدي الإنسان حين تعجز بصيرته، والدليل حين يضيع الطريق، والمرجعية حين تتضارب الآراء. والتسليم للوحي إذًا ليس تعطيلًا للفكر، بل اعتراف حكيم بأن العقل البشري يحتاج إلى مصدر أعلى يسترشد به.

وفي هذا السياق، يبيّن الكتاب أن من التكبر العقلي أن يرفض الإنسان أمرًا إلهيًا لأنه لا يتوافق مع فهمه أو هواه، فالعقل الناضج هو الذي يُقرّ بحدوده، ويُسلم لله، لا لأنه عاجز، بل لأنه واثق أن الحق لا يأتي إلا من الله، ولو لم يدركه الآن فسيُدركه لاحقًا، أو يكفيه أن الله قد علمه.

 

سادساً: رد شبهات المعترضين على التسليم: عقلانية التسليم أم عقلانية التمرد؟

في زمن تعالت فيه أصوات تُنادي بالحرية المطلقة والفردانية المتطرفة، أصبح الحديث عن "التسليم" يُقابل أحيانًا بالرفض أو التهكم، وكأن الانقياد لله ورسوله نوعٌ من التخلّف أو الإلغاء للعقل. وهنا يتصدّى كتاب عقلنة التسليم لهذه الشبهة بطرح متين ومقنع.

يبدأ الكتاب بتفنيد الفكرة الخاطئة التي تُساوي بين التسليم والانقياد الأعمى. فالتسليم في الإسلام لا ينبع من جهل، ولا من قهر خارجي، بل من قناعة داخلية عميقة بأن الله أعلم من الإنسان، وأرحم به من نفسه، وأن ما يأمر به لا يمكن أن يكون إلا خيرًا، وإن خفيت بعض حِكمه.

ثم يرد الكتاب على من يزعمون أن التسليم "يلغي الحرية" أو "يُعطل العقل"، موضحًا أن هذه الادعاءات في حقيقتها شبهات نابعة من فهم مغلوط للحرية والعقلانية. فالعقل الذي يُدرك وجود خالقه، ويعترف بجهله المحدود، ويُسلم للوحي عن وعي وبصيرة، هو عقل ناضج لا تابع. وأما من يرفض التسليم بدعوى "الحرية الفكرية"، فهو في كثير من الأحيان واقع تحت عبودية أخرى: عبودية الهوى، أو الجماعة، أو الفلسفة السائدة.

كما يشير الكتاب إلى أن جميع البشر يسلمون لشيء ما في النهاية: القوانين، التقاليد، الثقافة، المصلحة... فلماذا يُستنكر التسليم لله وحده، بينما يُطبع الناس على التسليم لغيره بلا نقد ولا مراجعة؟ أليس الأولى بالعقل أن يُسلم لمن يعلم ولا يُخطئ، بدلاً من أن يخضع لما هو قاصر أو متقلب؟

ويؤكد الكتاب أن التسليم لله لا يُنافي النقد أو التفكر، بل يوجه العقل نحو ما هو أعلى وأصدق. فالإيمان الحق يمر عبر العقل، لكنه لا يتوقف عنده، بل يعبر به إلى آفاق اليقين.

 

سابعاً: أثر التسليم في حياة المسلم: طمأنينة القلب، واستقامة الطريق.

ليس التسليم لله ورسوله مجرد فكرة نظرية تُطرح في الكتب أو تُتداول في المجالس الدينية، بل هو أساس عملي تنبني عليه حياة المسلم في تفاصيلها كلها. وفي ختام كتاب عقلنة التسليم، يُبرز الدكتور مهند بن جازي الآثار الملموسة التي يتركها التسليم الصادق على شخصية الإنسان وسلوكه ونظرته للعالم.

أول هذه الآثار هو الطمأنينة النفسية. فحين يُسلّم المسلم أمره لله، يدرك أن هناك حكمة خلف كل ما يحدث له، حتى وإن لم يفهمها في حينها. فلا يعيش في صراع داخلي دائم، ولا ينهكه التساؤل المستمر: "لماذا حدث هذا؟"، أو "ماذا لو اخترت كذا؟". التسليم يُطفئ نيران القلق، ويمنح القلب سكينة مبنية على الثقة في تدبير الله.

ومن آثار التسليم أيضًا التحرر من الأهواء والتقلبات. فالمسلم الذي يُسلم أمره لله لا يكون عبدًا لرغباته، ولا تابعًا لتقلبات مزاجه أو ضغوط مجتمعه، بل يسير على منهج واضح وثابت، يُرشده الوحي، ويُعينه العقل المستنير.

التسليم كذلك يُثمر قوة في التوكل، وصبرًا في البلاء، ورضًا بالقضاء. فكلما اشتدّت المحن، ازداد المسلم رسوخًا لا اضطرابًا، لأنه يعلم أن ما كتبه الله له خير، وما منعه عنه رحمة، وأن دوره هو السعي والطاعة، لا الاعتراض أو الجزع.

كما يُنتج التسليم توازنًا في التعامل مع النجاح والفشل. فحين ينجح الإنسان، لا يُصاب بالعُجب، لأنه يعلم أن التوفيق من الله، وحين يفشل، لا ينهار، لأنه يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأن في المنع أحيانًا عطاء.

وفي المحصلة، فإن التسليم يعيد تشكيل الحياة كلها: من طريقة اتخاذ القرار، إلى طريقة تفسير الأحداث، إلى كيفية التعامل مع الآخرين، وحتى في لحظات الموت، يكون المتسلم لله أكثر الناس ثباتًا.

 

الخاتمة:
في زمنٍ كثر فيه الجدال، وتضخّم فيه صوت العقل المجرد، يأتي كتاب عقلنة التسليم ليُذكّرنا أن العقل الحقيقي هو ذاك الذي يعرف متى يتوقف… ومتى يُسلِّم
.
ليس ضعفًا أن نعترف بعجزنا، بل هو عين القوة… أن نُدرك أن خلف هذا الكون إرادة حكيمة، وربّ عليم، أمرنا لا لنقيد أنفسنا، بل لنحررها من عبودية الهوى والظن.

لقد كشف لنا هذا الكتاب أن التسليم لله ليس ضد العقل، بل هو عقلٌ أعلى، عقلٌ يرى ما وراء اللحظة، ويتجاوز حدود الإدراك اللحظي، ويثق في أن ما عند الله خير، ولو لم تُدركه العقول في البداية.
وأن قولنا "سمعنا وأطعنا" لا يعني إغلاق العقل، بل توجيهه لما ينفع، وربطه بمصدر الهداية النقي: الوحي.

التسليم لله ليس خنوعًا، بل اختيار واعٍ، وثقة راسخة، ويقينٌ لا يتزعزع بأن ما أمر الله به، فيه الخير كل الخير، حتى وإن خالف ما اعتدناه، أو لم نُدرك حكمته بعد.
هو موقف لا يتخذه إلا من عرف الله حق المعرفة… وآمن أنه الحكيم العليم الرحيم، الذي لا يظلم أحدًا، ولا يأمر إلا بما يُصلح عباده.

وفي نهاية رحلتنا مع هذا الكتاب، ربما نخرج بسؤال واحد بسيط… لكنه عميق: هل أنا مسلمٌ فقط بالاسم… أم أنني فعلاً قد سلّمت؟ سلّمت لله في اختياراتي، في عقلي، في قلبي، في طريقتي في رؤية الحياة؟

إن التسليم ليس لحظة، بل موقف… وليس كلمة، بل حياة
فليكن هذا الكتاب بداية جديدة لعقل يُفكّر… ثم يُسلّم.

تعليقات